لقد تذبذب العقل البشري منذ وجد الإنسان علي ظهر الأرض إلى يومه هذا ـ وأغلب الظن كذلك حتى تتداركه هداية من الله ـ بين أطوار ثلاثة ، وإن شئت قلت بين ألوان ثلاثة من ألوان التفكير والتصوير :
1 ـ طور الخرافة والبساطة والتسليم المطلق للغيب المجهول والقوي الخفية البعيدة عنه . فهو ينسب إليها كل شيء ويفسر بها كل شيء . ولا يري لنفسه معها عملاً ولا فكراً ، وكثيراً ما استبد هذا الطور بالإنسان في أدوار حياته الأولي يوم عاش علي هذه الأرض يجهلها وتجهله ، ولعل أقواماً من بني الإنسان لا يزالون يعيشون علي هذا النحو إلى الآن .
2 ـ وطور الجمود والمادية والتنكر لهذا الغيب المجهول ، والخروج علي هذه القوي البعيدة علي حس الإنسان والتمرد علي كل ما يتصل إليها بسبب ، ومحاولة تفسير مظاهر الكون جميعاً محاولة مادية صرفة وفق قوانين تجريبية اهتدي إليها الإنسان بطول تجاربه ودوام بحثه وتفكيره . وكثيراً ما طغى هذا التفكير علي العقل الإنساني في هذه العصور الحديثة ، التي وصل فيها الإنسان إلى الكشف عن كثير من مجهولات الطبيعة ، وعرف فيها الكثير من خواص الكائنات ، فظن أنه واصل لا محالة بهذا الأسلوب إلى معرفة ما هناك ، وإن كان الذي يعرفه بالنسبة إلى ما يجهله كالذرة من الرمال في الفلاة الواسعة الفسيحة .
وفي هذا الدور أنكر الإنسان المادي الألوهية وما يتصل بها والنبوات وما يمت إليها والآخرة والجزاء والعالم الروحي بكل ما فيه ، ولم ير شيئاً إلا هذا العالم الأدنى المحدود يفسر ظواهره بحسب قوانينه المادية الصرفة .
كلا هذين اللونين من ألوان التفكير خطأ صريح وغلو فاحش وجهالة من الإنسان بما يحيط بالإنسان .
3 ـ ولقد جاء الإسلام الحنيف يفصل القضية فصلاً حقاً ، فيقرر حق العالم الروحي ويوضح صلة الإنسان بالله رب الكائنات جميعاً وبالحياة الآخرة بعد هذه الحياة الدنيا ، ويجعل الإيمان بالله أساس إصلاح النفس التي هي من عالم الروح فعلاً والتي لا سبيل إلى صلاحها إلا بهذا الإيمان , ويصف ذلك العالم الغيبي المجهول وصفاً يقربه إلى الأذهان ولا يتنافى مع بدهيات العقول ، وهو مع هذا يقرر فضل هذا العالم المادي وما فيه من خير للناس لو عمروه بالحق وانتفعوا في حدود الخير ، ويدعو إلى النظر السليم في ملكوت السماوات والأرض ، ويعتبر هذا النظر أقرب إلى معرفة الله العلي الكبير . هذا الموقف من الإسلام الحنيف ألزم العقل البشري لوناً من ألوان التفكير ، هو أكملها وأتمها وأكثرها انطباقاً علي واقع الحياة ومنطق الكون ، وأعظمها نفعاً لبني الإنسان : ذلك هو الجمع بين الإيمان بالغيب والانتفاع بالعقل . فنحن نعيش في عالمين فعلاً لا في عالم واحد ، ونحن عاجزون عن تفسير كثير من ظواهر الكون فعلاً ، عاجزون عن إدراك كل الحقائق الأولية التي تحيط بنا . ونحن في إدراكها ننتقل من مجهول إلى مجهول حتى ينتهي بنا العجز إلى الإقرار بعظمة الله ، ونحن نشعر من أعماق قلوبنا بعاطفة الإيمان قوية مشبوبة ، لأن الإيمان من فطرة نفوسنا وهو لها ضرورة من ضرورات حياتها كالغذاء والهواء والماء للأجسام سواء بسواء . ونحن بعد ذلك نلمس أن المجتمع الإنساني لن يصلحه إلا اعتقاد روحي يبعث في النفوس مراقبة الله والتعزي بمعرفته ، ومن هنا كان لزاماً علي الناس أن يعودوا إلى الإيمان بالله والنبوات وبالروح وبالحياة الآخرة ، وبالجزاء فيها علي الأعمال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ , وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7-8) .
كل هذا في الوقت الذي يجب عليهم فيه أن يطلقوا لعقولهم العنان لتعلم وتعرف وتخترع وتكتشف وتسخر هذه المادة الصماء وتنتفع بما في الوجود من خيرات وميزات : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طـه:114) , وإلي هذه اللون من التفكير الذي يجمع بين العقليتين الغيبية والعلمية ندعو الناس . لقد عاش الغرب أخريات أيامه مادي النزعة لا يشعر بغير المادة ولا يعترف بغير المادة ولا يحس بوجود غيرها حتى ماتت في نفوس أبنائه عواطف الرحمة الإنسانية ، وخبت أنواع الروحانية الربانية . وهيمن الغرب علي الدنيا بأسرها بعلومة ومعارفه ومباهجه وزخارفه وكشوفه ومخترعاته وجنوده وأمواله , وصبغ الفكر البشري في كل مكان بصبغته هذه .
والآن والدنيا كلها تكتوي بهذه النيران تنبثق الدعوة من جانب جديد لتهيب بالناس في الشرق والغرب معاً أن يمزجوا المادة بالروح , وأن يؤمنوا بالغيب والشهادة ، وأن يعترفوا من جديد إلى الله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50) .
(رسالة .. في طور جديد)